فصل: شرف الدين بن الرحبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء **


 زين الدين الحافظي

هو الصدر الإمام العالم الأمير زين الدين سليمان بن المؤيد علي بن خطيب عقرباء اشتغل بصناعة الطب على شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللَّه فحصل علمها وعملها وأتقن فصولها وجملها وخدم بصناعة الطب الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن أبي بكر بن أيوب وكان يومئذ صاحب قلعة جعبر وأقام في خدمته في قلعة جعبر وتميز عنده وأجزل رفده وخوله في دولته واشتمل عليه بكليته وكان زين الدين يعاني الأدب والشعر والكتابة الحسنة وكان أيضاً يعاني الجندية وداخل أولاد الملك الحافظ وصار حظياً عندهم مكيناً في دولتهم ولما توفي الملك الحافظ وتسلم قلعة جعبر الملك الناصر يوسف بن محمد بن غازي صاحب حلب وذلك بمراسلات كان فيها زين الدين الحافظي وانتقل زين الدين إلى حلب وصارت له يد عند الملك الناصر ومنزلة رفيعة وتزوج زينالدين بابنة رئيس حلب واقتنى أموالاً كثيرة ولما ملك الناصر يوسف بن محمد دمشق وصل معه إلي دمشق وصار مكيناً في وما زال زين الدين في كل منصب له في سماء المجد أعلى المراتب أمير حوى في العلم كل فضيلة وفاق الورى في رأيه والتجارب إذا كان في طب فصد مجالس وإن كان في حرب فقلب الكتائب ففي السلم كم أحيا ولياً بطبه وفي الحرب كم أفنى العدا بالقواضب ولم يزل الملك الناصر بدمشق وهو عنده حتى جاءت رسل التتر من الشرق إلى الملك الناصر وهم في طلب البلاد والتشرط عليه بما يحمله إليهم من الأموال وغيرها فبعث زين الدين الحافظي رسولاً إلى خاقان هولاكو ملك التتر وسائر ملوكهم فأحسنوا إليه الإحسان الكثير واستمالوه حتى صار من جهتهم ومازجهم وتردد في المراسلة مرات وأطمع التتر في البلاد وصار يهول على الملك الناصر أمورهم ويعظم شأنهم ويفخم مملكتهم ويصف كثرة عساكرهم ويصغر شأن الملك الناصر ومن عنده من العساكر وكان الملك الناصر مع ذلك جباناً متوقفاً عن الحرب ولما جاءت التتر إلي حلب وكان هولاكوا قد نازلها بقوا عليها نحو شهر وملكوها وقتلوا أهلها وسبوا النساء والصبيان ونهبوا الأموال وهدموا القلعة وغيرها هرب الملك الناصر يوسف من دمشق إل مصر وقصد أن يملكها فخرجت عساكر مصر وملكها يومئذ الملك المظفر سيف الدين قطز فكسر الملك الحافظ وتفرقت عساكره وزال ملكه وملكت التتر دمشق بالأمان وجعلوا فيها نائباً من جهتهم وصار زين الدين أيضاً بها وأمروه وبقي معه جماعة أجناد حتى كانوا يدعونه الملك زين الدين ولما وصل الملك المظفر قطز صاحب مصر ومعه عساكر الإسلام وكسر التتر في وادي كنعان الكسرة العظيمة المشهورة وقتل من التتر الخلق العظيم الذي لا يحصى انهزم نائب التتر ومن معه من دمشق وراح زين الدين الحافظي معهم خوفاً علي نفسه من المسلمين وصارت بلاد الشام بحمد اللَّه إلى ما كانت عليه وملكها بعد الملك المظفر قطز رحمه اللَّه السلطان لملك الظاهر ركن الدين بيبرس وصار صاحب الديار المصرية والشام خلد اللَّه ملكه‏.‏

 أبو الفضل عبد الكريم المهندس

هو مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن عبد الكريم ابن عبد الأمن الحارثي مولده ومنشؤه بدمشق وكان يعرف بالمهندس لجودة معرفته بالهندسة وشهرته بها قبل أن يتحلى بمعرفة صناعة الطب وكان في أول أمره نجاراً وينحت الحجارة أيضاً وكان تكسبه بصناعة النجارة وله يد طولى فيها والناس كثيراً ما يرغبون إلى أعماله وأكثر أبواب البيمارستان الكبيرة الذي أنشأه الملك العادل نور الدين ابن زنكي رحمه اللَّه من نجارته وصنعته أخبرني سديد الدين بن رقيعة وحدثني شمس الدين بن المطواع الكحال عنه وكان صديقاً له أن أول اشتغاله بالعلم أنه قصد إلى أن يتعلم أوقليدس ليزداد في صناعة النجارة جودة ويطلع على دقائقها ويتصرف في أعمالها قال وكان في تلك الأيام يعمل في مسجد خاتون الذي تحت المنيبع غربي دمشق فكان في كل غداة لا يصل إلى ذلك الموضع إلا وقد حفظ شيئاً من أوقليدس ويحل أيضاً منه في طريقه وعند فراغه من العمل إلى أن حل كتاب أوقليدس بأسره وفهمه فهماً جيداً وقوي فيه ثم نظر إيضاً في كتاب المجسطي وشرع في قراءته وحله وانصرف بكليته إلى صناعة الهندسة وعرف بها أقول واشتغل أيضاً بصناعة النجوم وعمل الزيجات وكان قد ورد إلى دمشق ذلك الوقت الشرف الطوسي وكان فاضلاً في الهندسة والعلوم الرياضية ليس في زمانه مثله فاجتمع به وقرأ عليه وأخذ عنه شيئاً كثيراً من معارفه وقرأ أيضاً صناعة الطب على أبي المجد محمد بن أبي الحكم ولازمه حق الملازمة ونسخ بخطه كتباً كثيرة في العلوم الحكمية وفي صناعة الطب ووجدت بخطه الكتب الستة عشر لجالينوس وقد قرأها على أبي المجد محمد بن أبي الحكم وعليها خط ابن أبي الحكم له بالقراءة وهو الذي أصلح الساعات التي للجامع بدمشق وكان له على مراعاتها وتفقدها جامكية له بالقراءة وهو الذي أصلح الساعات التي للجامع بدمشق وكان له على مراعاتها وتفقدها جامكية مستمرة يأخذها وكانت له أيضاً جامكية لطبه في البيمارستان الكبير وبقي سنيناً كثيرة يطلب في البيمارستان إلى حين وفاته وكان فاضلاً في صناعة الطب جيد المباشرة لأعمالها محمود الطريقة وكان قد سافر إلى ديار مصر وسمع شيئاً من الحديث بالإسكندرية في سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين وخمسمائة من رشيد الدين أبي الثناء حماد بن هبة اللّه بن حماد بن الفضيل الحراني ومن أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصفهاني واشتغل أيضاً بالأدب وعلم النحو وكان ىشعر وله قطع جيدة وتوفي رحمه اللَّه في سنة تسع وتسعين وخمسمائة بدمشق بإسهال عرض له وعاش نحو السبعين سنة ومن شعر أبي الفضل بن عبد الكريم المهندس نقلت من خطه في مقالته في رؤية الهلال ألفها للقاضي محيي الدين بن القاضي زكي الدين ويقول فيها يمدحه خصصت بالأب لما أن رأيتهم دعوا بنعتك أشخاصاً من البشر ضد النعوت ترتاهم أن بلوتهم وقد يسمى بصيراً غير ذي بصر والنعت ما لم تك الأفعال تعضده اسم على صورة خطت من الصور وما الحقيق به لفظ يطابقه المع - - نى كنجل القضاة الصيد من مضر فالدين والملك والإسلام قاطبة برأيه في أمان من يد الغير يرجو بذاك نعيماً لا نفاد له جوار ملك عزيز جل مقتدر فاللّه يكلؤه من كل حادثة ما غردت هاتفات الورق في الشجر ولأبي الفضل بن عبد الكريم المهندس من الكتب رسالة في معرفة رمز التقويم مقالة في رؤية الهلال اختصار كتاب الأغاني الكبير لأبي الفرج الأصبهاني وكتب من تصنيفه هذا نسخه بخط في عشر مجلدات ووقفها بدمشق في الجامع مضافاً إلى الكتب الموقوفة في مقصورة ابن عروة كتاب في الحروب والسياسة كتاب في الأدوية المفردة على ترتيب حروف أبجد‏.‏

 موفق الدين عبد العزيز

هو الشيخ الإمام العالم موفق الدين عبد العزيز بن عبد الجبار بن أبي محمد السلمي كان كثير الخبر محباً له مؤثراً للجميل عزيز المروءة وافر العربية شديد الشفقة على المرضى وخصوصاً لمن كان منهم ضعيف الحال يفتقدهم ويعالجهم ويوصل إلهم النفقة وما يحتاجونه من الأدوية والأغذية وكان كثير الدين طلق الوجه يحبه كل أحد وكان في أول أمره في المدرسة فقيهاً في المدرسة الأمينية بدمشق عند الجامع واشتغل بعد ذلك على إلياس بن المطران بصناعة الطب وأتقن معرفتها وصل عملها وعملها وصار من المتميزين من أربابها والمشايخ الذين يقتدى بهم فيها وكان له مجلس عام للمشتغلين عليه بالطب وخدم بصناعة الطب في البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ثم خدم بعد ذلك الملك العادل أبا بكر بن أيوب وبقي معه سنين وله منه الإنعام الكثير والإفضال الغزير والمنزلة العلية والجامكية السنية ولم يزل في خدمته إلى أن توفي كموفق الدين عبد العزيز رحمه اللَّه بدمشق بعلة القولنج وذلك في يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة سنة أربع وستمائة ودفن بجبل قاسيون وعمره نحو الستين سنة ومولده في سنة خمسمائة ونيف وخمسين‏.‏

 سعد الدين بن عبد العزيز

هو الحكيم الأجل الإمام العالم سعد الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الجبار بن أبي محمد السلمي قد أشبه أباه في خلقه وخلقه ومعرفته وحذقه كثير الدين شريف اليقين بارع في العلوم الفقهية ورع في الأمور الدينية ولما كان بدمشق كان يعتكف بالجامع شهر رمضان ولم يتكلم فيه وهو الذي تولى عمارة المدرسة الحنبلية في سوق القمح بدمشق وذلك في أيام الملك الأشرف موسى بن الملك العادل وكان الإمام المستنصر باللّه خليفة بغداد قد أمره بعمارتها وكان الحكيم سعد الدين أوحد زمانه وعلامة أوانه في صناعة الطب قد أحكم كليات أصولها وأتقن جزئيات أنواعها وفصولها ولم يزل مواظباً على الاشتغال ملازماً له في كل الأحوال مولده بدمشق في أوائل المحرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وخدم بصناعة الطب في البيمارستان الكبير الذ أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي‏.‏

وبعد ذلك خدم الملك الأشرف أبا الفتح موسى بن أبي بكر بن أيوب وأقام معه في بلاد الشرق وله منه الإحسان الكثير والإفضال الغزير والجامكية الوافرة والصلات المتواترة وكان حظياً عنده مكيناً في دولته ولم يزل في خدمته إلى أن أتى الملك الأشرف إلى دمشق وتسلمها من ابن أخيه الملك الناصر داود بن الملك المعظم وذلك في شعبان سنة ست وعشرين وستمائة فأتى معه إلى دمشق وبقي بها ثم ولاه السلطان رئاسة الطب ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك الأشرف وكانت وفاته رحمه اللَّه بقلعة دمشق أول نهار يوم الخميس رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة ثم بعد ذلك لما ملك دمشق الملك الكامل بمحمد بن أبي بكر بن أيوب في العشر الأول من جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة أمر باستخدامه وأن يقرر له جميع ما كان باسمه من أخيه الملك الأشرف وبقي في خدمته مدة يسيرة وتوفي الملك الكامل رحمه اللَّه وذلك في ليلة الخميس أول الليل ثاني وعشرين رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة ولم يزل الحكيم سعد الدين مقيماً بدمشق وله مجلس عام للمشتغلين عليه بصناعة الطب إلى أن توفي وللشريف البكري في الحكيم سعد الدين من أبيات حكيم لطيف من لطافة وصفه يود المعافى السقم حتى يعوده

 رضي الدين الرحبي

هو الشيخ الحكيم الإمام العالم رضي الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي من الأكابر في صناعة الطب والمتعينين من أهلها وله القدر والاشتهار والذكر الشائع عند الخواص والعوام ولم يزل مبجلاً عند الملوك وغيرهم كثيري الاحترام له وكان كبير النفس عالي الهمة كثير التحقيق حسن السيرة محباً للخير وأهله شديد الاجتهاد في مداواة المرض رؤوفاً بالخلق طاهر اللسان ما عرف منه في سائر عمره أنه آذى حداً ولا تكلم في عرض غيره بسوء وكان والده من بلد الرحبة وله أيضاً نظر في صناعة الطب إلا إن صناعة الكحل كانت أغلب عليه وعرف بها وكان مولد الشيخ رضي الدين بجزيرة ابن عمر ونشأ بها وأقام أيضاً بنصيبين وبالرحبة سنين وسافر أيضاً إلى بغداد وإلى غيرها واشتغل بصناعة الطب وتمهر فيها واجتمع أيضاً في ديار مصر بالشيخ الموفق المعروف بابن جميع المصري وانتفع به وكان وصوله مع أبيه إلى دمشق في سنة خمس وخمسين وخمسمائة وكان في ذلك الوقت ملكها السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وأقام رضي الدين ووالده بدمشق سنين وتوفي والده بها ودفن بجبل قاسيون وبقي رضي الدين قاطناً بدمشق وملازماً للدكان لمعالجة المرضى ونسخ بها كتاباً كثيرة وبقي على تلك الحال مدة‏.‏

واشتغل على مهذب الدين بن النقاش الطبيب ولازمه فنوه بذكره وقدمه وتأدت به الحال إلى أن اجتمع بالملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فحسن موقعه عنده وأطلق له في كل شهر ثلاثين ديناراً ويكون ملازماً للقلعة والبيمارستان فبقي كذلك مدة دولة صلاح الدين بأسرها وكان صلاح الدين قد طلبه للخدمة في السفر فلم يفعل ولما توفي صلاح الدين رحمه اللّه بدمشق وذلك في ليلة الأربعاء ثلث الليل الأول سابع وعشرين صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة وانتقل الملك عن أولاده ألى أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب واستولى على البلاد أمر بأن يكون في خدمته في الصحبة فلم يجب إلى ذلك وطلب أن يكون مقمياً بدمشق فأطلق له الملك العادل ما كان مقرراً باسمه في أيام صلاح الدين وأن يبقى مستمراً على ما هو عليه وبقي على ذلك أيضاً إلى أن توفي الملك العادل وملك بعده الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل فأجرى له خمسة عشر ديناراً ويكون متردداً إلى البيمارستان فبقي متردداً إليه إلى أن توفي رحمه اللّه‏.‏

واشتغل عليه بصناعة الطب خلق كثير ونبغ منهم جمتاعة عدة وأقرأوا لغيرهم وصاروا من المشايخ المذكورين في صناعة الطب ولو اعتبر أحد جمهور الأطباء بالشام لوجد إما أن يكون منهم من قد قرأ على الرحبي أو من قرأ على من قرأ عليه وكان من جملة من قد قرأ عليه أيضاً في أول أمره الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي قبل ملازمته لابن المطران‏.‏

وحدثني الشيخ رضي الدين يوماً قال أن جميع من قرأ علي ولازمني فإنهم سعدوا وانتفع الناس بهم وذكر لي أسماء كثيرين منهم قد تميزوا واشتهروا في صناعة الطب منهم من قد مات ومنهم من كان بعد في الحياة وكان يرى أنه لا يقرئ أحداً من أهل الذمة أصلاً صناعة الطب ولا لمن لا يجده أهلاً لها وكان يعطي الصناعة حقها من الرآسة والتعظيم وقال لي أنه لم يقرئ في سائر عمره من أهل الذمة سوى اثنين لا غير أحدهما الحكيم عمران الإسرائيلي والآخر إبراهيم بن خلف السامري بعد أن ثقلا عليه بكل طريق وتشفعا عنده بجهات لا يمكنه ردهم وكل منهما نبغ وصار طبيباً فاضلاً ولا شك أن من المشايخ من يكون للاشتغال عليه بركة وسعد كما يوجد ذلك في بعض الكتب المصنفة دون غيرها في علم علم وكنت في سنة انتين وثلاث وعشرين وستمائة قد قرأت عليه كتاباً في الطب ولا سيما فيما يتعلق بالجزء العملي من كلام أبي بكر محمد بن زكريا الرازي وغيره وانتفعت به‏.‏

وكان الشيخ رضي الدين محباً للتجارة مغري بها وكان يراعي مزاجه ويعتني بحفظ صحته وقال الصاحب جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي عن الحكيم الرحبي أنه كان يلزم فيه أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة قال ولقد بلغني أنه كان يقتني أجود الطباخات ويتقدم إليها بأحكام ما يغلب على ظنه الانتفاع باستعماله في نهاره ذلك بما باشره من نفسه وما غلب عليه من الأخلاط في يومه فإذا أنجزته وأعلمته بذلك طلب من يؤاكله من مؤانسيه فإذا حضر منهم من حضر استأذنته في إحضار الطعام فيقول لها أخريه فإن الشهوة لم تصدق بعد فتؤخره إلى أن يستدعيه يقول أعجلي فتأتيه به ويتناول منه فقال له بعض أصحابه يوماً ما المراد بهذا فقال الأكل مع الشهوة هو المندوب إله لحفظ الصحة فإن الأعضاء إذا احتاجت إلى تعويض ما تحلل منها استدعت ذلك من المعدة فتستدعيه المعدة من خارج فقال له وما ثمرة هذا قال أن يعيش الإنسان العمر الطبيعي فقال له إنك قد بلغت من السن ما لمي بق بينك وبين العمر الطبيعي إلا القليل فأي الحاجة إلى هذا التكلف فقال له لأبقى ذلك القليل فوق الأرض استنشق الهواء وأجرع الماء ولا أكون تحتها بسوء التدبير ولم يزل على حالته تلك إلى أن أتاه أجله‏.‏

أقول ومما يناسب هذا المعنى المتقدم في أنه لا ينبغي أن يؤكل الطعام إلا بشهوة صادقة للأكل إنني كنت يوماً أقرأ عليه في شيء من كلامه الرازي في ترتيب تناول الأغذية وقد ذكر الرازي أن الإنسان ينبغي له أن يأكل في اليوم مرتين وفي اليوم الثاني مرة واحدة فقال لي لا تسمع هذا والذي ينبغي له أن يأكل في اليوم مرتين وفي اليوم الثاني مرة واحدة فقال لي لا تسمع هذا والذي ينبغي أن تعتمد عليه أنك تأكل وقت تكون الشهوة للأكل صادقة في أي وقت كان سواء أكان مرتين في النهار أو مرة أو ليل أو نهار فالأكل عند الشهوة الصادقة للأكل هو الذي ينفع وإذا لم يكن كذلك فإنه مضرة البدن وصدق في قوله وقد لزم في سائر أيامه أشياء لا يخل بها وذلك أنه كان يجعل يوم السبت أبداً لخروجه إلى البستان وراحته فيه ويتركه يوم بطالة عن الاشتغال وكان لا يدخل الحمام إلا في يوم الخميس وقد جعل ذلك له راتباً وكان في يوم الجمعة يقصد من يريد رؤيته وزيارته من الأعيان والكبراء وكان أبداً يتوخى أنه لا يصعد في سلم وإذا كان له مريض يفتقده إن لم يكن في موضع لا يصعد إليه إذا أتاه في سلم وإلا لم يقربه وكان يصف السلم بأنه منشار العمر‏.‏

ومن أعجب ما حكى لأبي من ذلك أنه قال إنني منذ اشتريت هذه القاعة التي أنا ساكن فيها أكثر من خمس وعشرين سنة ما أعرف أنني طلعت إلى الحجرة التي فوقها إلا وقت استعرضت الدار واشتريتها وما عدت طلعت إلى الحجرة بعد ذلك إلى يومي هذا‏.‏

ومن نوادره وسن تصرفاته فيما يتعلق بصناعة الطب حدثني الصاحب صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وزير الملك الإشرف بن الملك العادل وقد حكى جملاً من مناقب الشيخ رضي الدين فمن ذلك قال إن الصاحب صفي الدين بن شكر وزير الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان أبداً يلازم أكل لحم الدجاج ويعدل عن لحم الضأن في أكثر الأوقات فشكا إليه شحوباً كان قد غلب على لونه وكان الأطباء يصفون له كثيراً من الأشربة وغيرها فلما شكا إليه هذا مضى لحظة وعاد ومعه قطعة من صدر دجاجة وقطعة حمراء من لحم ضأن ثم قال له أنت تلازم أكل لحم الدجاج فلم يأت الدم المتو لد منه مشرق الحمرة كما يأتي من لحم الضأن وأنت ترى لون هذا اللحم من الضأن ومباينته في اللون لهذه القطعة من الدجاج فينبغي أن تترك أكل لحم الدجاج وتلازم أكل لحم الضأن فإنك تصلح وما تحتاج معه إلى علاج قال فقبل هذا الرأي منه وتناول ما أوصاه به واستمر على ذلك مدة فصلح لونه واعتدل مزاجه‏.‏

أقول وهذا إقناع حسن أوجده لمن أراد علاجه وتدبير بليغ في حفظ صحته وذلك أن الوزير كان عبل البدن تام البنية قوي التركيب جيد الاستمراء فكانت أعضاؤه ترزاً من لحم الدجاج بدم لطي وهي تحتاج إلى غذاء أغلظ منه وأمتن فلما لازم أكل لحم الضأن صار يتولد له منه دم متين يقوم بكفاية ما تحتاج إليه أعضاؤه فصلح مزاجه وظهر لونه‏.‏

وكان مولد الشيخ رضي الدين الرحبي في شهر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة بجزيرة ابن عمر وكان أول مرضه في يوم عيد الأضحى من سنة ثلاثين وستمائة ووفاته رحمه اللَّه بكرة يوم الأحد العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بدمشق ودفن بجبل قاسيون فعاش نحو المائة سنة ولم يتبين تغير شيء من سمعه ولا بصره وإنما كان في آخر عمره قد عرض له نسيان للأشياء القريبة العهد المتجددة وأما الأشياء البعيدة المدة التي كان يعرفها من زمان طويل فإنه كان ذاكراً لها وخلف ولدين الأكبر منهما شرف الدين أبو الحسن علي والآخر جمال الدين عثمان وحكي لي بعض أهله ممن لازمه في المرض أنه عند موته جس نبض يده اليسرى بيده اليمنى وبقي كالمتأمل المفكر في ذلك ثم ضرب بيديه كفاً على كف لأنه علم أن قوته قد سقطت قال وعدّل زورقية كانت على رأسه بيديه واستبسل للموت ومات بعد ذلك‏.‏

ولرضي الدين الرحبي من الكتب بتهذيب شرح ابن الطيب لكتاب الفصول لأبقراط اختصار كتاب المسائل لحنين كان قد شرع في ذلك ولم يكمله‏.‏

 شرف الدين بن الرحبي

هو الحكيم الإمام العالم الفاضل علامة عصرة وفريد دهرة شرف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن حيدرة بن الحسن الرحبي كان مولدة بدمشق في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكان قد سلك حذو أبية واقتفى ما كان يقتفية وهو أشبة به خلقاً وخُلقاً وطرائق لم يزل متوفراً على قراءة الكتب وتحصيلها ونفسه تشرئب إلى طلب الفضائل وتفصيلها وله تدقيق في الصناعة الطبية وتحقيق لمباحثها الكلية والجزئية وله في الطب كتب مؤلفة وحواش متفرقة واشتغل بصناعة الطب على أبيه وقرأ أيضاً على الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي وحرر عليه كثيراً من العلوم ولا سيما من تصانيف الشيخ موفق الدين البغدادي وإشتغل أيضاً بالأدب عل الشيخ علم الدين السخاوي وعلى غيره من العلماء وقد أتقن علم الأدب إتقاناً لا مزيد عليه ولا يشاركه أحد فيه وله فطرة جيدة في قول الشعر وأحب ما إليه التخلي مع نفسه والملازمة لقراءته ودرسه والإطلاع على آثار القدماء والإنتفاع بمؤلفات الحكماء وكان نزيه النفس عالي الهمة لم يؤثر التردد إلى الملوك ولا إلى أرباب الدولة وخدم مدة في البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي ولما وقف شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللّه الدار التي له بدمشق وجعلمها مدرسة يدرس فيها صناعة الطب وينتفع المسلمون بقراءتهم فيها أوصى أن يكون مدرسها شرف الدين بن الرحبي لما قد تحققه من علمه وفهمه فتولى التدريس بها مدة وتوفي شرف الدين بن الرحبي بدمشق ودفن بجبل قاسيون وكانت وفاته رحمه اللّه في الليلة التي صباحها يوم الجمعة حادي عشر المحرم سنة سبع وستين وستمائة بعلة ذات الجنب‏.‏

وحدثني الحكيم بدر الدين بن قاضي بعلبك وشمس الدين الكتبي المعروف بالخواتمي قالا كان شرف الدين قبل أن يمرض ويموت بأشهر يقول للجماعة المترددين إليه والتلاميذ المشتغلين عليه أنه بعد قليل أموت وذلك يكون عند قران الكوكبين ثم يقول لهم قولوا للناس هذا حتى يعرفوا مقدار علمي في حياتي وعلمي بوقت موتي وكان قوله موافقاً لما حكم به‏.‏

ومن شعر شرف الدين بن الرحبي وهو مما أنشدني لنفسه فمن ذلك قال سهام المنايا في الورى ليس تمنع فكل له يوماً وإن عاش مصرع وكلّ وإن طال المدى سوف ينتهي إلي قعر لحدٍ في ثرى منه يودع فقل للذي قد عاش بعد قرينه إلى مثلها عما قليل ستدفع فكل ابن أنثي سوف يفضي إلى ردى ويرفعه بعد الأرائك شرجع ويدركه يوماً وإن عاش برهة قضاء تساوى فيه هم ومرضع فلا يفرحن يوماث بطول حياته لبيب فما في عيشة المرء مطمع فما العيش إلا مثل لمحة بارق وما الموت إلا مثل ما العين تهجع فتباً لدنيا ما تزال تعلنا أفاويق كأس مرة ليس تقنع سحاب أمانيها جهام وبرقها إذا شيم برق خلب ليس يهمع كأن لم يكن يوماً علا مرفقاً لها نفائس تيجان ودر مرصع تباعد عنهم وحشة كل وامق وعافهم الأهلون والناس أجمع وقاطعهم من كان حال حياتهم بوصلهم وجداً بهم ليس يطمع يبكيهم الأعداء من سوء حالهم ويرحمهم من كان ضداً ويججزع فقل للذي قد غره طول عمره وما قد حواه من زخارف تخدع أفق و انظر الدنيا بعين بصيرة تجد كل ما فيها ودائع ترجع فأين الملوك الصيد قدماً ومن حوى من الأرض ما كانت به الشمس تطلع حواه ضريح من فضاء بسيطها يقصرعن جمانه حين يذرع وأنشدني أيضاً لنفسه ليس يجدي ذكر الفتى بعد موت فاطرح ما يقوله السفهاء كم قال جهلاً بأني إن أمت يزل النظام ويفسد الثقلان وافاه مضيّ الحمام ولم يرع حيّ ولم يحفل به اثنان فغدا لقيٍّ تحت التراب مجندلاً لم ينتطح في موته عنزان من ظن أن لا بد منه وإنه ذو عنية في عالم الإكوان فلبئسما ذهبت وساوس فكره منه إلي دعوى بغير بيان أني وما فوق البسيطة فاسد إلا ويخلفه بديل ثاني وقال وأشدني إياها بعد وفاة أخيه الحكيم جمال الدين عمثان في سنة ثمان وخمسين وستمائة تبدلت لما أن وجدت سكينة وعزاً نفى شر الحسود المعاند وقد ناهزت سني ثمانين حجة ومات من الأهلين كل مساعد ولا سيما الأخر الشقيق وإن غدا لدى نازل في الخطب ركني وساعدي فخانتني الأيام فيما رجوته ولما تزل تأتي بعكس المقاصد فصبراً على كيد الزمان لعله يؤول إلى الإنصاف بعد التباعد فغيبة ما يشنى عن العين موجب تناسى ما منه يخاف ويحذر وإن كنت ذا علم بأن ليس ملبسي شابباً ولا رد المنية يقدر وقال هو مما كتب به إلي من دمشق وكنت يومئذ بصرخد عند مالكها الأمير عز الدين أيبك المعظمي موفق الدين ماذا السهو منك على ما نلت من رتبة في العلم والأدب أبعت نفسك بالنزر الحقير لقد أرخصتها بعد طول الجد والدأب أقمت في بلد يزري بساكنه لا يرتضيه لبيب من ذوي الرتب ناء عن الخير ذي جدب فليس به سوى صخور وحر منه ملتهب مضيعاً فيه عمراً ما له عوض إذا تصرم وقت منه لم يؤب أتحسب العمر مردوداً تصومه هيهات أن يرجع الماضي من الحقب أم تحسب العمر ما ولت لذاذته ينال بعدذهاب العمر بالذهب إذا تولى شباب العمر في نغص فما له في بقايا العمر من أرب لو كان ما أنت فيه مكسباً لغنى لما وفى بذهاب العمر في نصب ولا تقم بسواها مع حصول غنى فالعمر فيما سواها غير محتسب واقطع زمانك طيباً في محاسنها وعد إلى اللهو واللذات والطرب وبادر العمر قبل الفوت مغتنما ما دمت حياً فإن الموت في الطلب وخذ عياناً إذا ما أمكنت فرص ولا تبع طيب موجود بمرتقب فالعمر منصرم والوقت مغتنم والدهر ذو غِيَر فانعم به تصب فاعمل بقولي ولا تجنح إلى أحد ممن يفند من عمري وذي رغب يرى السعادة في نيل الحطام ولو حواه مع نصب من سوء مكتسب فاستدرك الفائت المقضي في عمر فليس بالنأي عن مثواك من كثب ولا تعش عيش ذي نقص وكن أبداً ممن سمت همة منه على الشهب واغنم حياة أب ما زال ذا حزن مذ غبت عنه لبعد منك مكتئب فلست تعدم مع رؤياه مكتسباً يسد بالقنع من عري ومن سغب فالرأي ما قلته فاعمل به عجلاً ولا تصخ نحو فدم غير ذي حدب ومن سمت في سماء المجد همته فأدركت في المعالي أرفع الرتب قد فاق بقراط في علم وفي حكم وفاق سحبان في شعر وفي خطب له التصانيف في كل العلوم ولا شيء يماثلها من سائر الكتب أقدارها قد علت في الناس وارتفعت عن كل شبه كمثل السبعة الشهب في فيها المعاني التي كالدر قد نظمت سلك خط وخير اللفظ منتخب ولا عجيب لدر كان مورده من بحر علم لمولى في العلى دئب قد نال راحة تحصيل العلوم وما من راحة حصلت إلا عن التعب البعض ورام مسعاه أقوام وما بلغوا البعض منه وكلّ جَدّ في الطلب وكل علم وجود فهو منه إلى من يجتديه كغيث دائم الصيب للَّه كم من أياد منه قد وصلت إلي في سالف الأيام والحقب إني لأشكرها ما دمت مجتهداً وشكر نعماه طول الدهر أجدر بي عندي من البين أشواق إليك كما للناس في الجدب أشواق إلى السحب ولو تكون لي الدنيا بأجمعها في البعد ما كنت مختاراً فراق أبي هو الذي لم يزل أشفاقه أبداً علي والبر من بعد ومن كثب وأنني بعد ما جد الفراق بنا والبعد لم يصف لي عيش ولم يطب وكيف يلتذ عيشاً من أتاح به هذا الزمان إلى قوم من الحطب لم يعرفوا قدر ذي علم لجهلهم وليس ذلك في الجهال بالعجب أتيت من ضاع فضلي في فناه وهل غباوة العجم تدري فطنة العرب وإن أقمت بأقوام على خطأ مني وقد مر بعض العمر في نصب فقد أقام سميي قبل في نفر بأرض نجلة يشكو حادث النوب وهي الأمور التي تأتي مقدرة وليس شيء من الدنيا بلا سبب ومن بدائع نظم أنت قائله بيت به حكم من رأي ذي حدب إذا انقضى شباب المرء في نغص فما له في بقايا العمر من أرب يا حبذا طيب أيام لنا سلفت وطيب أوقاتها لو أنها تؤب وإن لي همة تسمو السماك وما إلا الفضائل والعلياء مطلبي وسوف أقصد أرضاً قد نشأت بها والقرب من كل ذي فضل وذي أدب واجعل العزم في علم أحصله فالعلم في كل حال خير مكتسب وأنشدني أيضاً لنفسه لم يبق تولهي بكم غير ذماً ينصب لذا البكا من العين دما إن كان يقتلني إلهي حكماًفي حبك لم أجد لموتي ألما ولشرف الدين بن الرحبي من الكتب كتاب في خلق الإنسان وهيئة أعضائه ومنفعتها لم يسبق إلى مثله وحواش على كتاب القانون لابن سينا حواش على شرح ابن أبي صادق لمسائل حنين

 جمال الدين بن الرحبي

هو الحكيم الأجل العالم الفاضل جمال الدين عثمان بن يوسف بن حيدرة الرحبي مولده ومنشؤه بدمشق من أكابر الفضلاء وسادة العلماء أوحد زمانه وفريد أوانه اشتغل بصناعة الطب على والده وعلى غيره وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه وكان حسن المعالجة جيد المداواة وخدم في البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي رحمه اللَّه لمعالجة المرضى وبقي به سنين وكان يحب التجارة ويتعانيها ويسافر بها في بعض الأوقات إلى مصر ويأتي من مصر بتجارة ولما وصلت التتر إلى الشام وذلك في سنة سبع وخمسين وستمائة توجه الحكيم جمال الدين بن الرحبي إلى مصر وأقام فيها ثم مرض وتوفي بالقاهرة وذلك في العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وستمائة‏.‏

 كمال الدين الحمصي

هو أبو منصور المظفر بن علي بن ناصر القرشي من الفضلاء المشهورين والعلماء المذكورين وكان كثير الخير وافر المروءة كريم النفس محباً لاصطناع المعروف واشتغل بصناعة الطب على الشيخ رضي الدين الرحبي وعلى غيره وشرع قراءة كتاب القانون على الحكيم القاضي بهاء الدين أبي الثناء محمود بن أبي الفضل منصور بن الحسن بن إسماعيل الطبري المخزومي لما أتي إلى دمشق وقرأ عليه منه إلى علاج الإسهال الدماغي ثم سافر الشيخ بهاء الدين إلى بلد الروم في سنة ثمان وستمائة وكان كمال الدين الحمصي قد اشتغل أيضاً بالأدب وقرأ على الشيخ تاج الدين الكندي وكان محباً للتجارة وأكثر معيشته منها وكانت له دكان فيالخواصين بدمشق يجلس فيها ويكره التكسب بصناعة الطب وإنما كان الملوك وأكثر الأعيان يطلبونه ويستطبونه لما ظهر من علمه وبان من فضله وطلبه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وغيره ليخدمه ويبقى معه في الصحبة فما فعل وبقي سنين يتردد إلى البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي ويعالج المرضى فيه احتساباً ثم ألزم بعد ذلك بأن قررت له فيه جامكية وجراية وبقي كذلك إلى أن توفي رحمه اللَّه وكانت وفاته في يوم الثلاثاء تاسع شهر شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة‏.‏

ولكمال الدين الحمصي من الكتب مقالة في الباه وهي مستقصاة في فنها شرح بعض كتاب العلل والأعراض لجالينوس الرسالة الكاملة في الأدوية المسهلة اختصار كتاب الحاوي للرازي لم يتم مقالة في الاستسقاء تعاليق على الكليات من كتاب القانون تعاليق في الطب تعاليق في البول ألفها في أول رجب سنة ثلاث وستمائة اختصار كتاب المسائل لحنين بن إسحاق وقد أجاد فيه‏.‏

 موفق الدين عبد اللطيف البغدادي

هو الشيخ الإمام الفاضل موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد ويعرف بابن اللباد موصلي الأصل بغدادي المولد كان مشهوراً بالعلوم متحلياً بالفضائل مليح العبارة كثير التصنيف وكان متميزاً في النحو واللغة العربية عارفاً بعلم الكلام والطب وكان قد اعتنى كثيراً بصناعة الطب لما كان بدمشق واشتهر بعلمها وكان يتردد إليه جماعة من التلاميذ وغيرهم من الأطباء للقراءة عليه كان والده قد أشغله بسماع الحديث في صباه من جماعة منهم أبو الفتح محمد بن عبد الباقي المعروف بابن البطي وأبو زرعة طاهر بن محمد القدسي وأبو القاسم يحيى بن ثابت الوكيل وغيرهم‏.‏

وكان يوسف والد الشيخ موفق الدين مشتغلاً بعلم الحديث بارعاً في علوم القرآن والقراءات مجيداً في المذهب والخلاف والأصولين وكان متطرفاً من العلوم العقلية وكان سليمان عم الشيخ موفق الدين فقيهاً مجيداً وكان الشيخ موفق الدين عبد اللطيف كثير الاشتغال لا يخلي وقتاً من أوقاته من النظر في الكتب والتصنيف والكتابة والذي وجدته من خطه أشياء كثيرة جداً بحيث أنه كتب من مصنفاته نسخاً متعددة وكذلك أيضاً كتب كتباً كثيرة من تصانيف القدماء وكان صديقاً لجدي وبينهما صحبة أكيدة بالديار المصرية لما كنا بها وكان أبي وعمي يشتغلان عليه بعلم الأدب واشتغل عليه عمي أيضاً بكتب أرسطوطاليس وكان الشيخ موفق الدين كثير العناية بها والفهم لمعانيها وأتى إلى دمشق من الديار المصرية وأقام بها مدة وكثر انتفاع الناس بعلمه ورأيته لما كان مقيماً بدمشق في آخر مرة أتى إليها وهو شيخ نحيف الجسم ربع القامة حسن الكلام جيد العبارة وكانت مسطرته أبلغ من لفظه وكان رحمه اللَّه ربما تجاوز في الكلام لكثرة ما يرى في نفسه وكان يستنقص الفضلاء الذين في زمانه وكثيراً من المتقدمين وكان وقوعه كثيراً جداً في علماء العجم ومصنفاتهم وخصوصاً الشيخ الرئيس بن سينا ونظرائه‏.‏

ونقلت من خطه في سيرته التي ألفها ما هذا مثاله قال أني ولدت بدار لجدي في درب الفالوذج في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وتربيت في حجر الشيخ أبي النجيب لا أرف اللعب واللهو وأكثر زماني مصروف في سماع الحديث وأخذت لي إجازات من شيوخ بغداد وخراسان والشام ومصر وقال لي والدي يوما ً قد سمعتك جميع عوالي بغداد وألحقتك في الرواية بالشيوخ المسان وكنت في أثناء ذلك أتعلم الخط وأتحفظ القرآن والفصيح و والمقامات وديوان المتنبي ونحو ذلك ومختصراً في الفقه ومختصراً في النحو فلما ترعرعت حملني والدي إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنباري و وكان يومئذ شيخ بغداد وله بوالدي صحبة قديمة أيام التفقه بالنظامية فقرأت عليه خطبة الفصيح فهذر كلاماً كثيراً متتابعاً لم أفهم منه شيئاً لكن التلاميذ حوله يعجبون منه ثم قال أنا أجفو عن تعليم الصبيان أحمله إلى تلميذي الوجيه الواسطي يقرأ عليه فإذا توسطت حاله قرأ علي وكان الوجيه عند بعض أولاد رئيس الرؤساء وكان رجلاً أعمى من أهل الثروة والمروءة فأخذني بكلتي يديه وجعل يعلمني من أول النهار إلى آخره بوجوه كثيرة من التلطف فكنت أحضر حلقته بمسجد الظفرية ويجعل جميع الشروح لي ويخاطبني بها وفي آخر الأمر أقرأ درسي وخصني بشرحه ثم نخرج من المسجد فيذاكرني في الطريق فإذا بلغنا منزله أخرج الكتب التي يشتغل بها مع نفسه فاحفظ له وأحفظ معه ثم يذهب إلى الشيخ كمال الدين فيقرأ درسه ويشرح له وأنا أسمع وتخرجت إلى أن صرت أسبقه في الحفظ والفهم وأصرف أكثر الليل في الحفظ والتكرار وأقمنا على ذلك برهة كلما جاء حفظي كثر وجاد وفهمي قوي واستنار وذهني احتد واستقام وأنا ألازم الشيخ وشيخ الشيخ وأول ما ابتدأت حفظت اللمع في ثمانية أشهر وأسمع كل يوم شرح أكثرها مما يقرؤه غيري وأنقلب إلى بيتي فأطالع شرح الثمانين وشرح الشريف عمر بن حمزة وشرح ابن برهان وكل ما أجد من شروحها وأشرحها لتلاميذ يختصون بي إلى أن صرت أتكلم على كل باب كراريس ولا ينفذ ما عندي ثم حفظت أدب الكاتب لابن قتيبة حفظاً متقناً أما النصف الأول ففي شهور وأما تقويم اللسان ففي أربعة عشر يوماً لأنه كان أربعة عشر كراساً ثم حفظت مشكل القرآن له وغريب القرآن له وكل ذلك في مدة يسيرة ثم انتقلت إلى الإيضاح لأبي علي الفاسي فحفظته في شهور كثيرة ولازمت مطالعه شروحه وتتبعته التتبع التام حتى تبحرت فيه وجمعت ما قال الشراح وأما التكملة فحفظتها في أيام يسيرة كل يوم كراساً وطالعت الكتب المبسوطة والمختصرات وواظبت على المقتضب للمبرد وكتاب ابن درستويه وفي اثناء ذلك لا أغفل سماع الحديث والتفقه على شيخنا ابن فضلان بدار الذهب وهي مدرسة معلقة بناها فخر الدولة بن المطلب‏.‏

قال وللشيخ كمال الدين مائة تصنيف وثلاثون تصنيفاً أكثرها في النحو وبعضها في الفقه والأصولين وفي التصوف والزهد وأتيت على أكثر تصانيفه سماعاً وقراءة وحفظاً وشرع في تصنيفين كبيرين أحدهما في اللغة والآخر في الفقه ولمن يتفق له إتمامهما وحفظت عليه طائفة من كتاب سيبويه وأكببت على المقتضب فأتقنته وبعد وفاة الشيخ تجردت لكتاب سيبويه ولشرحه للسيرافي ثم قرأت على ابن عبيد الكرخي كتباً كثير منها كتاب الأصول لابن السراج والنسخة في وقف ابن الخشاب برباط المأمونية وقرأت عليه الفراض والعروض للخطيب التبريزي وهو من خواص تلاميذ ابن الشجري وأما ابن الخشاب فسمعت بقراءته معاني الزجاج على الكتابة شهدة بنت الأبري وسمعت منه الحديث المسلسل وهو ‏"‏ الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ‏"‏ وقال أيضاً موفق الدين البغدادي إن من مشايخه الذين انتفع بهم كما زعم ولد أمين الدولة بن التلميذ وبالغ في وصفه وكثر وهذا فلكثرة تعصبه للعراقيين وإلا فولد أمين الدولة لم يكن بهذه المثابة ولا قريباً منها وقال أنه ورد إلى بغداد رجل مغربي جوال في زي التصوف له أبهة ولسن مقبول الصورة عليه مسحة الدين وهيئة السياحة ينفعل لصورته من رآه قبل أني أخبره ويعرف بابن نائلي يزعم أنه من أولاد المتلثمة خرج من المغرب لما استولى عليها عبد المؤمن فلما إستقر ببغداد اجتمع إليه جماعة من الأكابر والأعيان وحضره الرضي القزويني وشيخ الشيوخ ابن سكينة وكنت واحداً ممن حضره فاقرأني مقدمة حساب ومقدمة ابن بابشاد في النحو وكان له طريق في التعليم عجيب ومن يحضره يظن أنه متبحر وإنما كان متطرفاً ولكنه أمعن في كتب الكيمياء والطلسمات وما يجري مجراها وأتى على كتب جابر بأسرها وعلى كتب ابن وحشية وكان يجلب القلوب بصورته ومنطقه وإيهامه فملأ قلبي شوقاً إلى العلوم كلها واجتمع بالإمام الناصر لدين اللَّه وأعجبه ثم سافر وأقبلت على الإشتغال وشمرت ذيل الجد والاجتهاد وهجرت النوم واللذات وأكببت على كتب الغزالي المقاصد والمعيار والميزان محك النظر ثم انتقلت إلى كتب ابن سينا صغارها وكبارها وحفظت كتاب النجاة وكتبت الشفاء وبحثت فيه وحصلت كتاب التحصيل لبهمنيار تلميذ ابن سينا وكتبت وحصلت كثيراً من كتب جابر بن حيان الصوفي وابن وحشية وباشرت عمل الصنعة الباطلة وتجارب الضلال الفارغة وأقوى من أضلني ابن سينا بكتابه في الصنعة الذي تمم به فلسفته التي لا تزداد بالتمام إلا نقصا‏.‏

قال ولما كان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة حيث لم يبق ببغداد من يأخذ بقلبي ويملأ عيني ويحل ما يشكل عليّ و دخلت الموصل فلم أجد فيها بغيتي لكن وجدت الكمال بن يونس جيداً في الرياضيات والفقه متطرفاً من باقي أجزاء الحكمة قد استغرق عقله ووقته حب الكيمياء وعملها حتى صار يستخف بكل ما عداها واجتمع إلى جماعة كثيرة وعُرضت علي مناصب فاخترت منها مدرسة ابن مهاجر المعقلة ودار الحديث التي تحتها وأقمت بالموصل سنة في اشتغال دائم متواصل ليلاً ونهاراً وزعم أهل الموصل أنهم لمن يروا من أحد قبلي ما رأوا مني من سعة المحفوظ وسرعة وسكون الطائر وسمعت الناس يهرجون في حديث الشهاب السهروردي المتفلسف ويعتقدون أنه قد فاق الأولين والآخرين وإن تصانيفه فوق تصانيف القدماء فهممت لقصده ثم أدركني التوفيق فطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه وكان أيضاً معتقداً فيها فوقعت على التلويحات واللمحة والمعارج فصادفت فيها ما يدل على جهل أهل الزمان ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها هي خير من كلام هذا الأنوك وفي أثناء كلامه يثبت حروفاً مقطعة يوهم بها أمثاله أنها أسرار إلهية قال ولما دخلت دمشق وجدت فيها من أعيان بغداد والبلاد ممن جمعهم الإحسان الصلاحي جمعاً كثيراً منهم جمال الدين عبد اللطيف ولد الشيخ أبي النجيب وجماعة بقيت من بيت رئيس الرؤساء وابن طلحة الكاتب وبيت ابن جهير وابن العطار المقتول الوزير وابن هبيرة الوزير واجتمعت بالكندي بالبغدادي النحوي وجرى بيننا مباحثات وكان شيخاً بهياً ذكياً مثرياً له جانب من السلطان لكنه كان معجباً بنفسه مؤذياً لجليسه وجرت بيننا مباحثات فأظهرني اللّه تعالى عليه في مسائل كثيرة ثم أني أهملت جانبه فكان يتأذى بإهمالي له أكثر مما يتأذى الناس منه وعملت بدمشق تصانيف جمة منها غريب الحديث الكبير جمعت فيه غريب أبي عبيد القاسم بن سلام وغريب ابن قتيبة وغريب الخطابي وكنت إبتدأت به في الموصل وعملت كتاب الواضحة في إعراب الفاتحة نحو عشرين كراساً وكتاب الألف واللام وكتاب ربّ وكتاباً في الذات والصفات الذاتية الجارية على ألسنة المتكلمين وقصدت بهذه المسألة الرد على الكندي ووجدت بدمشق الشيخ عبد اللَّه بن نائلي نازلاً بالمأذنة الغربية وقد عكف عليه جماعة وتحزب الناس فيه حزبين له وعليه فكان الخطيب الدولعي عليه وكان من الأعيان له منزلة وناموس ثم خلط ابن نائلي على نفسه فأعان عدوه عليه وصار يتكلم في الكيمياء والفلسفة وكثر التشنيع عليه واجتمعت به فصار يسألني عن أعمال أعتقد أنها خسيسة نزرة فيعظمها ويحتفل بها ويكتبها مني وكاشفته فلم أجده كما كان في نفسي فساء به ظني وبطريقه ثم باحثته في العلوم فوجدت عنده منها أطرافاً نزرة فقلت له يوماً لو صرفت زمانك الذي ضيعته في طلب الصنعة إلى بعض العلوم الشرعية أو العقلية كنت اليوم فريد عصرك مخدوماً طول عمرك وهذا هو الكيمياء لا ما تطلبه ثم اعتبرت بحاله وانزجرت بسوء ما له والسعيد من وعظ بغيره فأقلعت ولكن لا كل الإقلاع ثم إنه توجه إلى صلاح الدين بظاهر عكا يشكو إليه الدولعي وعاد مريضاً وحمل إلى البيمارستان فمات به وأخذ كتبه المعتمد شحنة دمشق وكان متيماً بالصنعة ثم أني توجهت إلى زيادرة القدس ثم إلى صلاح الدين بظاهر عكا فاجتمعت ببهاء الدين بن شداد قاضي العسكر يومئذ وكان قد اتصل به شهرتي بالموصل فانبسط إلي وأقبل علي وقال نجتمع بعماد الدين الكاتب فقمنا إليه وخيمته إلى خيمة بهاء الدين فوجدته يكتب كتاباً إلى الديوان العزيز بقلم الثلث من غير مسودة وقال هذا كتاب إلى بلدكم وذاكرني في مسائل من علم الكلام وقال قوموا بنا إلى القاضي الفاضل فدخلنا عليه فرأيت شيخاً ضئيلاً كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه وسألني القاضي الفاضل عن قوله سبحانه وتعالى ‏"‏ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ‏"‏ أين جواب إذاً وأين جواب لو في قوله تعالى ‏"‏ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ‏"‏ وعن مسائل كثيرة ومع هذا فلا يقطع الكتابة والإملاء وقال لي ترجع إلى دمشق وتجري عليك الجرايات فقلت أريد مصر فقال السلطان مشغول القلب بأخذ الفرنج عكا وقتل المسلمين بها فقلت لا بد لي من مصر فكتب لي ورقة صغيرة إلى وكيله بها‏.‏

فلما دخلت القاهرة جاءني وكيله وهو ابن سناء الملك وكان شيخاً جليل القدر نافذ الأمر فأنزلني داراً قد أزيحت عللها وجاءني بدنانير وغلة ثم مضى إلى أرباب الدولة وقال هذا ضيف القاضي الفاضل فدررت الهدايا والصلات من كل جانب وكان كل عشرة أيام أو نحوها تصل تذكرة القاضي الفاضل إلى ديوان مصر بمهمات الدولة وفيها فصل يؤكد الوصية في حقي وأقمت بمسجد الحاجب لؤلؤ رحمه اللَّه إقرئ وكان قصدي في مصر ثلاثة أنفس ياسين السيميائي والرئيس موسى بن ميمون اليهودي وأبو القاسم الشارعي وكلهم جاؤوني أما ياسين فوجدته محالياً كذاباً مشعبذاً يشهد للشاقاني بالكيمياء ويشهد له الشاقاني بالكيمياء ويقول عنه أنه يعمل أعمالاً يعجز موسى بن عمران عنها وأنه يحضر الذهب المضروب متى شاء وبأي مقدار شاء وبأي سكة شاء وأنه في الغاية قد غلب عليه عحب الرياسة وخدمة أرباب الدنيا وعمل كتاباً في الطب جمعه من الستة عشر لجالينوس ومن خمسة كتب أخرى وشرط أن لا يغير فيه حرفاً إلا أن يكون واو عطف أو فاء وصل وإنما ينقل فصولاً لا يختارها وعمل كتاباً لليهود سماه كتاب الدلالة ولعن من يكتبه بغير القلم العبراني ووقفت عليه فوجدته كتاب سوء يفسد أصول الشرائع والعقائد بما يظن أنه يصلحها وكنت ذات يوم بالمسجد وعندي جمع كثير فدخل شيخ رث الثياب نير الطعلة مقبول الصورة فهابه الجمع ورفعوه فوقهم وأخذت في إتمام كلامي فلما تصرم المجلس جاءني إمام المسجد وقال أتعرف هذا الشيخ هذا أبو القاسم الشارعي فاعتنقته وقلت إياك أطلب فأخذته إلى منزلي وأكلنا الطعام وتفاوضنا الحديث فوجدته كما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين سيرته سيرة الحكماء العقلاء وكذا صورته وقد رضي من الدنيا ببرض لا يتعلق منها بشيء يشغله عن طلب الفضيلة ثم لازمني فوجدته قيماً بكتب القدماء وكتب أبي نصر الفارابي ولم يكن لي اعتقاد في أحد من هؤلاء لأني كنت أظن أن الحكمة كلها حازها ابن سينا وحشاها كتبه وإذا تفاوضنا الحديث أغلبه بقوة الجدل وفضل اللسن ويغلبني بقوة الحجة وظهور المحجة وأنا لا تلين قناتي لغمزه ولا أحيد عن جادة الهوى والتعصب برمزه فصار يحضرني شيئاً بعد شيء من كتب أبي نصر والإسكندر ثامسطيوس يؤنس نفاري ويلين عريكة شماسي حتى عطفت عليه أقدِّم رجلاً وأؤخر أخرى‏.‏

وشاع أن صلاح الدين هادن الفرنج وعاد إلى القدس فقادتني الضرورة إلى التوجه إليه فأخذت من كتب القدماء ما أمكنني توجهت إلى القدس فرأيت ملكاً عظيماً يملأ العين روعة والقلوب محبة قريباً بعيداً سهلاً محبباً وأصحابه يتشبهون به يتسابقون إلى المعروف كما قال تعالى ‏"‏ ونزعنا ما في صدورهم من غل ‏"‏ وأول ليل حضرته وجدت مجلساً حفلاً بأهل العلم يتذاكرون في أصناف العلوم وهو يحسن الاستماع والمشاركة ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق ويتفقه في ذلك الحجارة على عاتقه ويتأسى به جميع الناس الفقراء والأغنياء والأقوياء والضعفاء حتى العماد الكاتب والقاضي الفاضل ويركب لذلك قبل طلوع الشمس إلى وقت الظهر ويأتي داره ويمد الطعام ثم يستريح ويركب العصر ويرجع في المساء ويصرف أكثر الليل في تدبير ما يعمل نهاراً فكتب لي صلاح الدين بثلاثين ديناراً في كل شهر على ديوان الجامع وأطلق أولاده رواتب حتى تقرر لي في كل شهر مائة دينار‏.‏

ورجعت إلى دمشق وأكببت على الاشتغال وإقراء الناس بالجامع وكلما أمعنت في كتب القدماء ازددت فهيا رغبة وفي كتب ابن سنا زهادة وأطلعت على بطلان الكيمياء وعرفت حقيقة الحال في وضعها ومَن وضعها وتكذّب بها وما كان قصده في ذلك وخلصت من ضلالين عظيمين موبقين وتضاعف شكري للَّه سبحانه على ذلك فإن أكثر الناس إنما هلكوا بكتب ابن سينا وبالكيمياء ثم أن صلاح الدين دخل دمشق وخرج يودع الحاج ثم رجع فحمّ ففصده من لا خبرة عنده فخارت القوة ومات قبل الرابع عشر ووجد الناس عليه شبيهاً بما يجدونه على الأنبياء وما رأيت ملكاً حزن الناس بموته سواه لأنه كان محبوباً يحبه البر والفاجر والمسلم والكافر ثم تفرق أولاده وأصحابه أيادي سبأ ومزقوا في البلاد كل ممزق وأثرهم توجه إلى مصر لخصبها وسعة صدر ملكها وأقمت بدمشق وملكها الملك الأفضل وهو أكبر الأولاد في السن إلى أن جاد الملك العزيز بعساكر مصر يحاصر أخاه بدمشق فلم ينل منه بغية ثم تأخر إل مرج الصفر لقولنج عرض له فخرجت إليه بعد خلاصه منه فأذن لي في الرحيل معه وأجرى علي من بيت المال كفايتي وزيادة وأقمت مع الشيخ أبي القاسم يلازمني صباح مساء إلى أن قضى نحبه ولما اشتد مرضه و وكان ذات الجنب عن نزلة من رأسه وأشرت عليه بدواء فأنشد لا أذود الطير من شجر قد بلوت المر من ثمره ثم سألته من ألمه فقال ما لجرح بميت إيلام وكان سيرتي في هذه المدة أنني أقرئ الناس بالجامع الأزهر من أول النهار إلى نحو الساعة الرابعة وسط النهار يأتي من يقرأ الطب وغيره وآخر النهار أرجع إلى الجامع الأزهر فيقرأ قوم آخرون وفي الليل أشتغل مع نفسي ولم أزل على ذلك إلى أن توفي الملك العزيز وكان شاباً كريماًً شجاعاً كثير الحياء لا يحسن قول لا وكان مع حداثة سنه وشرخ شبابه كامل العفة عن الأموال والفروج‏.‏

أقول ثم أن الشيخ موفق الدين أقام بالقارة بعد ذلك مدة وله الرتب والجرايات من أولاد الملك الناصر صلاح الدين وأتى إلى مصر ذلك الغلاء العظيم والموتان الذي لم يشاهد مثله وألف الشيخ موفق الدين في ذلك كتاباً ذكر فيه أشياء شاهدها أو سمعها ممن عاينها تذهل العقل وسمى ذلك الكتاب كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر ثم لما ملك السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب الديار المصرية وأكثر الشام والشرق وتفرقت أولاد أخيه الملك الناصر صلاح الدين وانتزع ملكهم توجه الشيخ موفق الدين إلى القدس وأقام بها مدة وكان يتردد إلى الجامع الأقصى ويشتغل الناس عليه بكثير من العلوم وصنف هنالك كتباً كثيرة ثم أنه توجه إلى دمشق ونزل بالمدرسة العزيزية بها وذلك في سنة أربع وستمائة وشرع في التدريس والاشتغال وكان يأتيه خلق كثير يشتغلون عليه ويقرأون أصنافاً من العلوم وتميز في صناعة الطب بدمشق صنف في هذا الفن كتاباً كثيرة وعرف به وأما قبل ذلك فإنما كانت شهرته بعلم النحو وأقام بدمشق مدة وانتفع الناس به ثم إنه سافر إلى حلب وقصد بلاد الروم وأقام بها سنين كثيرة وكان في خدمة الملك علاء الدين داود ابن بهرام صاحب أرزنجان وكان مكيناً عنده عظيم المنزلة وله من الجامكية الوافرة والافتقادات الكثيرة وصنف باسمه عدة كتب وكان هذا الملك عالي الهمة كثير الحياء كريم النفس وقد اشتغل بشيء من العلوم ولم يزل في خدمته إلى أن استولى على ملكه صاحب أرزن الروم وهو السلطان كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان ثم قبض على صاحب أرزنجان ولم يظهر له خبر‏.‏

قال الشيخ موفق الدين عبد اللطيف ولما كان في سابع عشر ذي القعدة من سنة خمس وعشرين وستمائة توجهت إلى أرزن الروم وفي حادي صفر من سنة ست وعشرين وشتمائة رجعت إلى أرزنجان من أرزن الروم وفي نصف ربيع الأول توجهت إلى كماخ وفي جمادى الأولى توجهت منها إلى دبركي وفي رجب توجهت منها إلى ملطية وفي آخر رمضان توجهت إلى حلب وصلينا صلاة عيد الفطر بالبهنساء ودخلت حلب يوم الجمعة تاسع شوال فوجدناها قد تضاعفت عمارتها وخيرها بحسن سيرة أتابك شهاب الدين واجتمع الناس على محبتة لمعدلته في رعيته‏.‏

أقول وأقام الشيخ موفق الدين بحلب والناس يشتغلون عليه وكثرت تصانيفه وكان له من شهاب الدين طغريل الخادم أتابك حلب جار حسن وهو متنحل لتدريس صناعة الطب وغيرها ويتردد إلى الجامع بحلب ليسمع الحديث ويقرئ العربية وكان دائم الاشتغال ملازماً للكتابة والتصانيف ولما أقام بحلب قصدت أني أتوجه إليه واجتمع به فلم يتفق ذلك وكان كتبه أبداً تصل إلينا ومراسلاته وبعث إلي أشياء من تصانيفه من خطه وهذه نسخة كتاب كتبته إليه لما كان بحلب المملوك يواصل بدعائه وثنائه وشكره وانتماءه إلى عبودية المجلس السامي المولوي السيدي السندي الأجل الكبيري العالمي الفاضل موفق الدين و سيد العلماء في الغابرين والحاضرين جامع العلوم المتفرقة في العالمين ولي أمير المؤمنين أوضح اللَّه به سبل الهداية وأنار ببقائه طرق الدراية وحقق بحقائق ألفاظه صحيح الولاية ولا زالت سعادته دائمة البقاء وسيادته سامية الارتقاء وتصانيفه في الآفاق قدوة العلماء وعمدة سائر الأدباء والحكماء المملوك يجدد الخدمة ويهدي من السلام أطيبه ومن الشكر والثناء أعذبه وينهي ما يكابده من أليم التطلع إلى مشاهدة أنوار شمسه المنيرة وما يعانيه من الارتياح إلى ملاحظة شريف حضرته الأثيرة وما تزايد من القلق وتعاظم عند سماعه قرب المزار من الأرق وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الديار من الديار ولولا قفول الركاب العالي ووصول الجناب الموفقي الجلالي لسارع المملوك إلى الوصول ولبادر المبادرة بالمثول ولجاء إلى شريف خدمته وفاز بالنظر إلى بهي طلعته فيا سعادة من فاز بالنظر إليه ويا بشرى من مثل بين يديه ويا سرور من حظي بوجه إقباله عليه ومن ورد بحار فضله من غيرها واستضاء بشمس علمه فسرى في ضياء منيرها نسأل اللّه تعالى تقريب الاجتماع وتحصيل الجمع بين مسرتي الإبصار والإسماع بمنه وكرمه إن شاء اللّه تعالى ومن مراسلات الشيخ موفق الدين عبد اللطيف أنه بعث إلى أبي في أول كتاب وهو يقول فيه عندي ولد الولد أعز من الولد وهذا موفق الدين ولد ولدي وأعز الناس عندي وما زالت النجابة تتبين لي فيه من الصغر ووصف وأثنى كثيراً وقال فيه ولو أمكنني أن آتي إليه بالقصد ليشتغل علي لفعلت وبالجملة فإنه كان قد عزم أن يأتي إلى دمشق ويقيم بها ثم خطر له أنه قبل ذلك يحج ويجعل طريقه على بغداد وأن يقدم بها للخليفة المستنصر باللّه أشياء من تصانيفه ولما وصل بغداد مرض في أثناء ذلك وتوفي رحمه اللّه يوم الأحد ثاني عشر المحرم سنة تسع وعشرين وستمائة ودفن بالوردية عند أبيه وذلك بعد أن خرج من بغداد وبقي غائباً عنها خمساً وأربعين سنة ثم إن اللّه تعالى ساقه إليها وقضى منيته بها ومن كلام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي مما نقلته من خطه قال ينبغي أن تحاسب نفسك كل ليلة إذا آويت إلى منامك وتنظر ما اكتسبت في يومك من حسنة فتشكر اللّه عليها وما اكتسبت من سيئة فتستغفر اللّه منها وتقلع عنها وترتب في نفسك مما تعمله في غدك من الحسنات وتسأل اللّه الإعانة على ذلك‏.‏

وقال أوصيك أن لا تأخذ العلوم من الكتب وإن وثقت من نفسك بقوة الفهم وعليك بالأستاذين في كل علم تطلب اكتسابه ولو كان الأستاذ ناقصاً فخذ عنه ما عنده حتى تجد أكمل منه وعليك بتعظيمه وتوجيبه وإن قدرت أن تفيده من دنياك فافعل وإلا فبلسانك وثنائك وإذا قرأت كتاباً فاحرص كل الحرص على أن تستظهره وتملك معناه وتوهم أن الكتاب قد عدم وأنك مستغن عنه لا تحزن لفقده وإذا كنت مكباً على دراسة كتاب وتفهمه فإياك أن تشتغل بآخر معه ولصرف الزمان الذي تريد صرفه في غيره إليه وإياك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة وواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين أو ما شاء اللّه فإذا قضيت منه وطرك فانتقل إلى علم آخر ولا تظن أنك إذا حصلت علماً فقد اكتفيت بل تحتاج إلى مراعاته لينمو ولا ينقص ومراعاته تكون بالذاكرة والتفكر واشتغال المبتدئ بالتلفظ والتعلم ومباحثة الأقران واشتغال العالم بالتعليم والتصنيف وإذا تصديت لتعليم علم أو للمناظرة فيه فلا تمزج به غيره من العلوم فإن كل علم مكتف بنفسه مستغن عن غيره فإن استعانتك في علم بعلم عجز عن استيفاء أقسامه كمن يستعين بلغة في لغة أخرى إذا علمها أو جهل بعضها قال وينبغي للإنسان أن يقرأ التواريخ وأن يطلع على السّير وتجارب الأمم فيصير بذلك كأنه في عمره القصير قد أدرك الأمم الخالية وعاصرهم وعاشرهم وعرف خيرهم وشرهم‏.‏

قال وينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول فاقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبع أفعاله وأحواله واقتف آثاره وتشبه به ما أمكنك وبقدر طاقتك وإذا وقفت على سيرته في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته وتمرضه وتطببه وتمتعه وتطيبه ومعاملته مع ربه ومع أزواجه وأصحابه وأعدائه وفعلت اليسير من ذلك فأنت السعيد كل السعيد‏.‏

قال وينبغي أن تكثر إيهامك لنفسك ولا تحسن الظن بها وتعرض خواطرك على العلماء وعلى تصانيفهم وتتثبت ولا تعجل ولا تعجب فمع العجب العثار ومع الاستبداد الزلل ومن لم يعرق جبينه إلى أبواب العلماء لم يعرق في الفضيلة ومن لم يخجلوه لم يبجله الناس ومن لم يبكتوه لم يسد ومن لم يحتمل ألم التعلم لم يذق لذة العلم ومن لم يكدح لم يفلح وإذا خلوت من التعلم والتفكر فحرّك لسانك بذكر اللّه وبتسابيحه وخاصة عند النوم فيتشربه لبك ويتعجن في خيالك وتكلم به في منامك وإذا حدث لك فرح وسرور ببعض أمور الدنيا فاذكر الموت وسرعة الزوال وأصناف المنغصات وإذا أحزنك أمر فاسترجع وإذا اعترتك غفلة فاستغفر واجعل الموت نصب عينك والعلم والتقى زادك إلى الآخرة وإذا أردت أن تعصي اللّه فاطلب مكاناً لا يراك فيه واعلم أن الناس عيون اللّه على العبد يريهم خيره وإن أخفاه وشره وإن ستره فباطنه مكشوف للّه واللّه يكشفه لعباده فعليك أن تجعل باطنك خيراً من ظاهرك وسرك أصبح من علانيتك ولا تتألم إذا أعرضت عنك الدنيا فلو عرضت لك لشغلتك عن كسب الفضائل وقلما يتعمق في العلم ذو الثروة إلا أن يكون شريف الهمة جداً أو أن يثري بعد تحصيل العلم وإني لا أقول إن الدنيا تعرض عن طالب العلم بل هو الذي يعرض عنها لأن همته مصروفة إلى العلم فلا يبقى له التفات إلى الدنيا والدنيا إنما تحصل بحرص وفكر في وجوهها فإذا غفل عن أسبابها لم تأته وأيضاً فإن طالب العلم تشرف نفسه عن الصنائع الرذلة والمكاسب الدنية وعن أصناف التجارات وعن التذلل لأرباب الدنيا والوقوف على أبوابهم ولبعض إخواني بيت شعر من جد في طلب العلوم أفاته شرف العلوم دناءة التحصيل وجميع طرق مكاسب الدنيا تحتاج إلى فراغ لها وحذق فيها وصرف الزمان إليها والمشتغل بالعلم لا يسعه شيء من ذلك وإنما ينتظر أن تأتيه الدنيا بلا سبب وتطلبه من غير أن يطلبها طلب مثلها وهذا ظلم منه وعدوان ولكن إذا تمكن الرجل في العلم وشهر به خطب من كل جهة وعرضت عليه المناصب وجاءته الدنيا صاغرة وأخذها وماء وجهه موفوراً وعرضه ودينه مصون واعلم أن للعلم عقبة وعرفاً ينادي على صاحبه ونوراً وضياء يشرق عليه ويدل عليه كتاجر المسك لا يخفى مكانه ولا تجهل بضاعته وكمن يمشي بمشعل في ليل مدلهم والعالم مع هذا محبوب أينما كان وكيفما كان لا يجد إلا من يميل إليه ويؤثر قربه ويأنس به ويرتاح بمداناته واعلم أن العلوم تغور ثم تفور في زمان بمنزلة النبات أو عيون المياه وتنتقل من قوم إلى قوم ومن صقع إلى صقع‏.‏

ومن كلامه أيضاً نقلته من خطه قال اجعل كلامك في الغالب بصفات أن يكون وجيزاً فصيحاً في معنى مهم أو مستحسن فيه إلغاز تام وإيهام كثير أو قليل ولا تجعله مهملاً ككلام الجمهور بل ارفعه عنه ولا تباعده عليهم جداً وقال إياك والهذر والكلام فيما لا يعني وإياك والسكوت في محل الحاجة ورجوع النوبة إليك إما لاستخراج حق أو اجتلاب مودة أو تنبيه على فضيلة وإياك والضحك مع كلامك وكثرة الكلام وتبتيرالكلام بل اجعل كلامك سرداً بسكون بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه وأنه عن خميرة سابقة ونظر متقدم وقال إياك والغلظة في الخطاب والجفاء في المناظرة فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام ويسقط فائدته ويعدم حلاوته ويجلب الضغائن ويمحق المودات ويصير القائل مستثقلا سكوته وأشهى إلى السامع من كلامه ويثير النفوس على مفاندته ويبسط الألسن بمخاشنته وإذهاب حرمته‏.‏

وقال اجعل كلامك كله جدلاً وأجب من حيث تعقل لا من حيث تعتاد وتألف‏.‏

وقال انتزح عن عادات الصبا وتجرد عن مألوفات الطبيعة واجعل كلامك لاهوتياً في الغالب لا ينفك من خبر أو قرآن أو قول حكيم أو بيت نادر أو مثل سائر‏.‏

وقال تجنب الوقيعة في الناس وثلب الملوك والغلظة على المعاشر وكثرة الغضب وتجاوز الحد فيه‏.‏

وقال استكثر من حفظ الأشعار الأمثالية والنوادر الحكمية والمعاني المستغربة ومن دعائه رحمه اللّه قال اللهم أعذنا من شموس الطبيعة وجموع النفس الردية وأسلس لنا مقاد التوفيق وخذ بنا في سواء الطريق يا هادي العمي يا مرشد الضلال يا محيي القلوب الميتة بالإيمان يا منير ظلمة الضلالة بنور الإتقان خذ بأيدينا من مهواة الهلكة نجنا من ردغة الطبيعة طهرنا من درن الدنيا الدنية بالإخلاص لك والتقوى إنك مالك الآخرة والدنيا وتسبيح أيضاً له قالسبحان من عم بحكمته الوجود واستحق بكل وجه أن يكون هو المعبود تلألأت بنور جلالك الآفاق وأشرقت شمس معرفتك على النفوس إشراقاً وأي إشراق‏.‏

ولموفق الدين عبد اللطيف البغدادي من الكتب كتاب غريب الحديث جمع فيه غريب أبي عبيد القاسم بن سلام وغريب ابن قتيبة وغريب الخطابي كتاب المجرد من غريب الحديث كتاب الواضحة في إعراب الفاتحة كتاب الألف واللام مسألة في قوله سبحانه إذا أخرج يده لم يكد يراها مسألة نحوية مجموع مسائل نحوية وتعاليق كتاب ربَّ شرح بانت سعاد كتاب ذيل الفصيح الكلام في الذات والصفات الذاتية الجارية على ألسنة المتكلمين شرح أوائل المفصل خمس مسائل نحوية شرح مقدمة ابن بابشاذ وسماه باللمع الكاملية شرح الخطب النباتية شرح الحديث المتسلسل شرح سبعين حديثاً شرح أربعين حديثاً طبية كتاب الرد على ابن خطيب الري في تفسير سورة الإخلاص كتاب كشف الظلامة عن قدامة شرح نقد الشعر لقدامة أحاديث مخرجة من الجمع بين الصحيحين كتاب اللواء العزيز باسم الملك العزيز في الحديث كتاب قوانين البلاغة عمله بحلب سنة خمس عشرة وستمائة حواش على كتاب الخصائص لابن جني كتاب الإنصاف بين ابن بري وابن الخشاب على المقامات للحريري وانتصار ابن بري للحريري مسألة في قولهم أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبلة رمضان تفسير قوله عليه السلام الراحمون يرحمهم الرحمن كتاب قبسة العجلان في النحو اختصار كتاب الصناعتين للعسكري اختصار كتاب العمدة لابن رشيق‏.‏

مقالة في الوفق كتاب الجلي في الحساب الهندي اختصار كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري وكتاب آخر في فنه مثله اختصار مادة البقاء للتميمي كتاب الفصول وهو بلغة الحكيم سبع مقالات فرغ منه في شهر رمضان سنة ثمان وستمائة شرح كتاب الفصول لأبقراط شرح كتاب تقدمة المعرفة لأبقراط اختصار وشرح جالينوس لكتب الأمراض الحادة لأبقراط اختصار كتاب الحيوان لأرسطوطاليس تهذيب مسائل مابال لأرسطوطاليس كتاب آخر في فنه مثله اختصار كتاب منافع الأعضاء لجالينوس اختصار كتاب آراء بقراط وأفلاطن اختصار كتاب الجنسين اختصار كتاب الصوت اختصار كتاب المني اختصار كتاب آلات التنفس اختصار كتاب العضل اختصار كتاب الحيوان للجاحظ كتاب في آلات التنفس وأفعالها ست مقالات مقالة في قسمة الحميات وما يتقوم به كل واحد منها وكيفية تولدها كتاب النخبة وهو خلاصة الأمراض الحادة اختصار كتاب الحميات للإسرائيلي اختصار كتاب البول للإسرائيلي اختصار كتاب النبض للإسرائيلي كتاب أخبار مصر الكبير كتاب أخبار مصر الصغير مقالتان وترجمة كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر وفرغ من تأليفه في العاشر من شعبان سنة ثلاث وستمائة بالبيت المقدس كتاب تاريخ وهو يتضمن سيرته ألفه لولده شرف الدين يوسف مقالة في العطش مقالة في الماء مقالة في إحصاء مقاصد واضعي الكتب في كتبهم وما يتبع ذلك من المنافع والمضار مقالة في معنى الجوهر والعرض مقالة موجزة في النفس مقالة في الحركات المعتاضة مقالة في العادات الكلمة في الربوبية‏.‏

مقالة تشتمل على أحد عشر باباً في حقيقة الدواء والغذاء ومعرفة طبقاتها وكيفية تركيبها مقالة في البادئ بصناعة الطب مقالة في شفاء الضد بالضد مقالة في ديابيطس والأدوية النافعة منه مقالة في الراوند حررها بحلب في جمادى الآخرة من سنة سبع عشرة وستمائة كان قد وضعها بمصر سنة خمس وتسعين وخمسمائة مقالة في السقنقور مقالة في الحنطة مقالة في الشراب والكرم مقالة في البحران صغيرة رسالة إلى مهندس فاضل عملي كتب بها من مدينة حلب اختصار كتاب الأدوية المفردة لابن وافد اختصار كتاب الأدوية المفردة لابن سمحون كتاب كبير في الأدوية المفردة مختصر في الحميات مقالة في المزج كتاب الرد على ابن الخطيب في شرحه بعض كليات القانون وألف كتابه هذا لعمي رشيد الدين علي بن خليفة رحمه اللّّه وأرسله إليه وكان تأليفه لذلك بحلب قبل توجهه إلى بلاد الروم كتاب تعقب حواشي ابن جميع على القانون مقالة يرد فيها على كتاب علي بن رضوان المصري في اختلاف جالينوس وأرسطوطاليس مقالة في الحواس مقالة في الكلمة والكلام كتاب السبعة كتاب تحفة الآمل مقالة في الرد على اليهود والنصارى مقالتان أيضاً في الرد على اليهود والنصارى مقالة في ترتيب المصنفين كتاب الحكمة العلائية ذكر فيه أشياء حسنة في العلم الإلهي وألف كتابه هذا لعلاء الدين داود بن بهرام صاحب أرزنجان مقالة على جهة التوطئة في المنطق حواش على كتاب الترياق فصول منتزعة من كلام الحكماء حل شيء من شكوك الرازي على كتب جالينوس كتاب المراقي إلى الغاية الإنسانية ثمان مقالات مقالة في ميزان الأدوية مقالة أخرى في المعنى وكشف شبه وقعت لبعض العلماء مقالة في المعنى في جواب ثلاث مسائل مقالة سادسة مختصرة مقالة تتعلق بموازين الأدوية الطبية في المركبات قول أيضاً في المعنى مقالة في التنفس والصوت والكلام مقالة في اختصار كلام جالينوس في سياسة الصحة انتزاعات من كتاب ديسقوريدس في صفات الحشائش انتزاعات أخرى في منافعها مقالة في تدبير الحرب كتبها لبعض ملوك زمانه في سنة ثلاث وعشرين وستمائة ووجدته أيضاً وقد ترجمها مقالة في السياسة العملية كتاب العمدة في أصول السياسة مقالة في جواب مسألة سئل عنها في ذبح الحيوان وقتله وهل ذلك سائغ في الطبع وفي العقل كما هو سائغ في الشرع مقالتان في المدينة الفاضلة مقالة في العلوم الضارة رسالة في الممكن مقالتان مقالة في الجنس والنوع أجاب بها في دمشق سؤال سائل في سنة أربع وستمائة الفصول الأربعة المنطقية تهذيب كلام أفلاطن حكم منثورة إيساغوجي مبسوط الواقعات مقالة في النهاية واللانهاية كتاب تأريث الفطن في المنطق والطبيعي والإلهي مقالة في كيفية استعمال المنطق وكتب بهذه المقالة إلي من بلاد الروم مقالة في حد الطب مقالة في البادئ بصناعة كتاب في القياس خمسون كراساً ثم أضيف إليه المدخل والمقولات والعبارة والبرهان فجاء مقداره أربع مجلدات مقالة في جواب مسألة في التنبيه على سبل السعادة الطبيعيات من السماع إلى آخر كتاب الحس والمحسوس ثلاث مجلدات كتاب السماع الطبيعي مجلدان كتاب آخر في الطبيعيات من السماع إلى كتاب النفس كتاب العجيب حواش على كتاب الثمانية المنطقية للفارابي شرح الأشكال البرهانية من ثمانية أبي نصر مقالة في تزييف الشكل الرابع مقالة في تزييف ما يعتقده أبو علي بن سينا من وجود أقيسة شرطية تنتج نتائج شرطية مقالة في القياسات المختلطات والصرف بارير مانياس مبسوط مقالة في تزييف المقاييس الشرطية التي يظنها ابن سينا مقالة أخرى في المعنى أيضاً كتاب النصيحتين للأطباء والحكماء كتاب المحاكمة بين الحكيم والكيميائي رسالة في المعادن وإبطال الكيمياء مقالة في الحواس عهد إلى الحكماء اختصار كتاب الحيوان لابن أبي الأشعث اختصار القولنج لابن أبي الأشعث مقالة في السرسام مقالة في العلة المراقية مقالة في الرد على ابن الهيثم في المكان مختصر فيما بعد الطبيعة مقالة في النخل ألفها بمصر سنة تسع وتسعين وخمسمائة وبيضها بمدينة أرزنجان في رجب سنة خمس وعشرين وستمائة مقالة في الملل الكتاب الجامع الكبير في المنطق والعلم الطبيعي والعلم الإلهي وهو زهاء عشر مجلدات التأم تصنيفه في نحو نيف وعشرين سنة كتاب المدهش في أخبار الحيوان المتوج بصفات نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام قال ابتدأت بكراسة منه بدمشق سنة سبع وستمائة وكمل في أربعة أشهر بحلب سنة ثمان وعشرين وستمائة وهو في مائة كراس كتاب الثمانية في المنطق وهو التصنيف الوسط‏.‏

 أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي

مغربي الأصل من مدينة فاس وأتى إلى الديار المصرية وكان فاضلاً في صناعة الطب والهندسة وعلم النجوم واشتغل في مصر بالطب على الرئيس موسى بن ميمون القرطبي وسافر يوسف بعد ذلك إلى الشام وأقام بمدينة حلب وخدم الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وكان يعتمد عليه في الطب وخدم أيضاً الأمير فارس الدين ميمون القصري ولم يزل أبو الحجاج يوسف مقيماً في حلب ويدرس صناعة الطب إلى أن توفي بها ولأبي الحجاج يوسف الإسرائيلي من الكتب رسالة في ترتيب الأغذية اللطيفة والكثيفة في تناولها شرح الفصول لأبقراط

 عمران الإسرائيلي

هو الحكيم أوحد الدين عمران بن صدقة مولده بدمشق في سنة إحدى وستين وخمسمائة وكان أبوه أيضاً طبيباً مشهوراً واشتغل عمران على الشيخ رضي الدين الرحبي بصناعة الطب وتميز في علمها وصار من أكابر المتعينين من أهلها وحظي عند الملوك واعتمدوا عليه في المداواة والمعالجة ونال من جهتهم من الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف وحصل من الكتب الطبية وغيرها ما لا يكاد يوجد عند غيره ولم يخدم أحداً من الملوك في الصحبة ولا تقيد معهم في سفر وإنما كل منهم إذا عرض له مرض أو لمن يعز عليه طلبه ولم يزل يعالجه ويطببه بألطف علاج وأحسن تدبير إلى أن يفرغ من مداواته ولقد حرص به الملك العادل أبو بكر بن أيوب بأن يستخدمه في الصحبة فما فعل وكذلك غيره من الملوك وحدثني الأمير صارم الدين التبنيني رحمه اللّه إنه لما كان بالكرك وبه صاحب الكرك يومئذ الملك الناصر داود بن الملك المعظم وكان الملك الناصر قد توعك مزاجه واستدعى الحكيم عمران إليه من دمشق فأقام عنده مديدة وعالجه حتى صلح فخلع عليه ووهب له مالاً كثيراً وقرر له جامكية في كل شهر ألفا وخمسمائة درهم ناصرية ويكون في خدمته وأن يسلف منها عن سنة ونصف سبعة وعشرين ألف درهم فما فعل‏.‏

أقول وكان السلطان الملك العادل لم يزل يصله بالإنعام الكثير وله منه الجامكية الوافرة والجراية وهو مقيم بدمشق ويتردد إلى خدمة الدور السلطانية بالقلعة وكذلك في أيام الملك المعظم وكان قد أطلق له أيضاً جامكية وجراية تصل إليه ويتردد إلى البيمارستان الكبير ويعالج المرضى وكان به أيضاً في ذلك الوقت شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللّه وكان يظهر من اجتماعهما كل فضيلة ويتهيأ للمرضى من المداواة كل خير وكنت في ذلك الوقت أتدرب معهما في أعمال الطب ولقد رأيت من حسن تأتي الحكيم عمران في المعالجة وتحققه للأمراض ما يتعجب منه ومن ذلك أنه كان يوماً قد أتى البيمارستان مفلوج والأطباء قد ألحوا عليه باستعمال المغالي وغيرها من صفاتهم فلما رآه وصف له في ذلك اليوم تدبيراً يستعمله ثم بعد ذلك أمر بفصده ولما فصد وعالجه صلح وبرأ برأ تاماً كذلك أيضاً رأيت له أشياء كثيرة من صفات مزاوير وألوان كان يصفها للمرضى على حسب ميل شهواتهم ولا يخرج عن مقتضى المداواة فينتفعون بها وهذا باب عظيم في العلاج ورأيته أيضاً وقد عالج أمراضاً كثيرة مزمنة كان أصحابها قد سئموا الحياة ويئس الأطباء من برئهم فبروا على يديه بأدوية غريبة يصفها ومعالجات بديعة عرفها وقد ذكرت من ذلك جملاً في كتاب التجارب والفوائد وتوفي الحكيم عمران في مدينة حمص في شهر جمادى الأولي سنة سبع وثلاثين وستمائة وقد استدعاه صاحبها لمداواته‏.‏

نصراني كان أعلم أهل زمانه بكتب جالينوس ومعرفتها والتحقيق لمعانيها والدراية لها وكان من كثرة اجتهاده في صناعة الطب وشدة حرصه ومواظبته على القراءة والمطالعة لكتب جالينوس وجودة فطرته وقوة ذكائه أن جمهور كتب جالينوس وأقواله فيها كانت مستحضرة له في خاطره فكان مهما تكلم به في صناعة الطب على تفاريق أقسامها وتفنن مباحثها وكثرة جزئياتها إنما ينقل ذلك عن جالينوس ومهما سئل عنه في صناعة الطب من المسائل والمواضيع المستعصية وغيرها لا يجيب بشيء من ذلك إلا أن يقول قال جالينوس ويورد فيه أشياء من كلام جالينوس حتى كان يتعجب منه في ذلك وربما أنه في بعض الأوقات كان يذكر شيئاً من كلام جالينوس ويقول هذا ما ذكره جالينوس في كذا وكذا ورقة من المقالة الفلانية من كتاب جالينوس ويسميه ويعني به النسخة التي عنده وذلك لكثرة مطالعته إياها وأنسه بها ومما شاهدته في ذلك من أمره أنني كنت أقرأ عليه في أوائل اشتغالي بصناعة الطب ونحن في المعسكر المعظمي - وكان أبي أيضاً في ذلك الوقت في خدمة الملك المعظم رحمه اللّه - شيئاً من كلام أبقراط حفظاً واستشراحاً فكنت أرى من حسن تأتيه في الشرح وشدة استقصائه للمعاني - بأحسن عبارة وأوجزها وأتمها معنى - ما لا يجسر أحد على مثل ذلك ولا يقدر عليه ثم يذكر خلاصة ما ذكره وحاصل ما قاله حتى لا يبقى في كلام بقراط موضع إلا وقد شرحه شرحاًَ لا مزيد عليه في الجودة ثم إنه يورد نص ما قاله جالينوس في شرحه لذلك الفصل على التوالي إلى آخر قوله ولقد كنت أراجع شرح جالينوس في ذلك فأجده قد حكى جملة ما قاله جالينوس بأسره في ذلك المعنى وربما ألفاظ كثيرة من ألفاظ جالينوس يوردها بأعيانها من غير أن يزيد فيها ولا ينقص وهذا شيء تفرد به في زمانه وكان في أوقات كثيرة لما أقام بدمشق يجتمع هو والشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي في الموضع الذي يجلس فيه الأطباء عند دار السلطان ويتباحثان في أشياء من الطب فكان الشيخ مهذب الدين أفصح عبارة وأقوى براعة وأحسن بحثاً وكان الحكيم يعقوب أكثر سكينة وأبين قولاً وأوسع نقلاً لأنه كان بمنزلة الترجمان المستحضر لما ذكره جالينوس في سائر كتبه من صناعة الطب فأما معالجات الحكيم يعقوب فإنها كانت في الغاية من الجودة والنجح وذلك أنه كان يتحقق معرفة المرض أولاً تحقيقاً لا مزيد عليه ثم يشرع في مداواته بالقوانين التي ذكرها جالينوس مع تصرفه هو فيما يستعمله في الوقت الحاضر‏.‏

وكان شديد البحث واستقراء الأعراض بحيث أنه كان إذا افتقد مريضاً لا يزال يستقصي منه عرضاً عرضاً وما يشكوه مما يجده من مرضه حالاً حالاً إلى أن لا يترك عرضا يستدل به على تحقيق المرض إلا ويعتبره فكانت أبداً معالجاته لا مزيد عليها في الجودة وكان الملك المعظم يشكر منه هذه الحالة ويصفه ويقول لو لم يكن في الحكيم يعقوب إلا شدة استقصائه في تحقيق الأمراض حتى يعالجها على الصواب ولا يشتبه عليه شيء من أمرها وكان الحكيم يعقوب أيضاً متقناً للسان الرومي خبيراً بلغته ونقل معناه إلى العربي وكان عنده بعض كتب جالينوس مكتوبة بالرومي مثل حيلة البرء والعلل والأعراض وغير ذلك وكان أيضاً ملازماً لقراءتها والاشتغال بها وكان مولده بالقدس وأقام بها سنين كثيرة ولازم بها رجلاً فاضلاً فيلسوفاً راهباً في دير السبق كان خبيراً بالعلم الطبيعي متقناً للهندسة وعلم الحساب قوياً في علم أحكام النجوم والاطلاع عليها وكانت له أحكام صحيحة وإنذارات عجيبة وأخبرني الحكيم يعقوب عنه معرفته للحكمة وحسن فطرته وفطنته شيئاً كثيراً واجتمع أيضاً الحكيم يعقوب في القدس بالشيخ أبي منصور النصراني الطبيب واشتغل عليه وباشر معه أعمال صناعة الطب وانتفع به‏.‏

وكان الحكيم يعقوب من أتم الناس عقلاً وأسدهم رأياً وأكثرهم سكينة ولما خدم الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب وصار معه في الصحبة كان حسن الاعتقاد فيه حتى أنه كان يعتمد عليه في كثير من الآراء الطبية وغيرها فينتفع بها ويحمد عواقبها وقصد الملك المعظم أن يوليه بعض تدبير دولته والنظر في ذلك فما فعل واقتصر على مداومة صناعة الطب فقط وكان قد عرض للحكيم يعقوب في رجليه نقرس وكان يثور به في أوقات ويألم بسببه وتعسر عليه الحركة فكان الملك المعظم يستصحبه في أسفاره معه في محفة ويفتقده ويكرمه غاية الإكرام وله منه الجامكية السنية والإحسان الوافر وقال له يوماً يا حكيم لم لا تداوي هذا المرض الذي في رجليك فقال يا مولانا الخشب إذا سوس ما يبقى في إصلاحه حيلة ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك المعظم وكانت وفاته رحمه اللّه في الساعة الثالثة من نهاريوم الجمعة سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة بدمشق وملك بعده وله الملك الناصر داود فدخل إليه الحكيم يعقوب ودعا له وذكره بقديم صحبته وسالف خدمته وأنه قد وصل إلى سن الشيخوخة والهرم والضعف وأنشده أتيتكم وجلابيب الصبا قشب فكيف أرحل عنكم وهي أسمال لي حرمة الضيف والجار القديم ومن أتاكم وكهول الحي أطفال وهذا الشعر لابن منقذ رحمه اللّه فأحسن إليه الملك الناصر إحساناً كثيراً وأطلق له مالاً وكسوة وأمر بأن جميع ما قد كان له مقرراً من الملك المعظم يستمر وأن لا يكلف لخدمة فبقي كذلك مديدة ثم توفي بدمشق في عيد الفصح للنصارى وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وستمائة‏.‏

هو الحكيم الأجل العالم أبو منصور بن الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب من أفاضل الأطباء وأعيان العلماء متميز في علم صناعة الطب وعملها متقن لفصولها وجملها اشتغل على والده وعلى غيره بصناعة الطب وقرأ أيضاً بالكرك على الإمام شمس الدين الخسروشاهي كثيراً من العلوم الحكمية وخدم الحكيم سديد الدين أبو منصور الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب وأقام في صحبته بالكرك وكان مكيناً عنده معتمداً عليه في صناعة الطب ثم أتى أبو منصور إلى دمشق وتوفي بها‏.‏